عبدالإله بلقزيز*
لم تكن "كتائب شهداء الأقصى" لترفع صوت الاحتجاج لولا أن المؤسسة السياسية الفتحاوية تعاني من عطب في نظام اشتغالها. لا يحتاج الأمر إلى كثير بيان، فتفسير الواضحات من المُفضحات. لكن بعض "فتح"، ممن "فتح" عليه الله بنعمة "السلطة" والفَيء إلى خيارات مريحة، منذ هبت عاصفة التسوية - بعد زمن "قوات العاصفة" - فصدعت بنيان المؤسسة، لا يرى في ذلك الاحتجاج إلا تمرداً على المؤسسة وشكلاً من أشكال استدراج "فتح" إلى تقديم تغطية سياسية لقوة مسلحة لم تنشأ بقرار من الحركة، وإنما بمبادرة من أطر فتحاوية في غفلة من رقابة الحركة على أفعال أطرها، وفي مناخ من "الانفلات الأمني" ساد منذ اندلاع انتفاضة الأقصى!
من نافلة القول أن "كتائب شهداء الأقصى" لم تهطل من فوق. ولا نبتت في بسيطة فلسطين كالفطر، بل - ودون أن يكون في عبارتنا أي قدح نأباه ونربأ بقلمنا أن يأتيه في حق قادة نحترمهم - لم تأت مع القادمين من تونس حين قدموا، وإنما من جوف معركة وطنية مع الاحتلال خرج مقاتلوها بعد إذ ضاقت بهم سُبل التسوية إلى وطنهم. وإلى ذلك فإن "كتائب شهداء الأقصى" سليل المؤسسة الفتحاوية وتقاليدها الأولى في النضال: التقاليد التي أجبرتها العملية الجراحية الإسرائيلية في لبنان - صيف عام 1982م - على أن تنكفئ لما يناهز عقدين. صحيح أنها لم تنشأ بقرار مركزي رسمي من حركة "فتح"، لكن ذلك ليس مما يعتبر من مطاعنها، لأن الكثير مما كان ينشأ أو يصدر عن "فتح"، منذ ميلادها في أواسط الستينيات، لم يكن دائماً - كما يعرف العارفون - بقرار رسمي وخاصة مع وجود "مراكز قوى" متعددة في الحركة، وإقطاعات سياسية يقتطعها الواحد منها لنفسه، كما خبر ذلك إخواننا اللبنانيون في سنوات السبعينيات ومطالع الثمانينيات حين استضافة لبنان قوى الثورة ومؤسساتها وقواعدها.
آذَن ميلاد "كتائب شهداء الأقصى"، منذ ثلاث سنوات ونصف، بتولي جيل سياسي فلسطيني - فتحاوي - جديد مقاليد إدارة الصراع في مرحلة منه جديدة فتحتها انتفاضة الأقصى في خواتيم شهر سبتمبر من عام 2000. هذا الجيل - ابتداء - لا يعلم كثيراً عن الخبرة المكتبية الفتحاوية، الجديدة عليه تماماً، والآتية في ركاب من حملتهم أوفاق "أوسلو" إلى أرضهم كي يقيموا عليها سلطة ما اختلفت كثيراً عن "سلطة الفاكهاني" في إدارة أمور العمل الوطني من المكاتب! لا يعرف عنها شيئاً لأنه تخرج في مدرسة مختلفة ليس فيها تقاليد أوامرية ولا عقوبات طرد أو توقيف أو عقاب مالي، هي انتفاضة عام 1987م: التي قاتل فيها مقاتلو الكتائب بالحجارة حين كانوا أطفالاً. كل ما يعرفونه أنهم فتحاويون "وبس"، وأن لهم رموزهم السياسيين في الداخل من شباب وكهول "فتح" من خريجي سجون الاحتلال مثلما لهم رموز فتحاويون من خارج فلسطين: منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر. وبكل هذه المعايير، ليس لائقاً أن يُنظر إلى مقاتلي الكتائب كفتحاويين من الدرجة العاشرة! وممّن؟!
لعله كان خليقاً بمن يفتعل اليوم أزمة الانتماء والهوية والدور مع "كتائب شهداء الأقصى" أن يعيد الاعتبار إليها وإلى الدور الذي نهضت به، منذ عام 2001م في مضمار تصحيح صورة "فتح" حتى لا نقول في إنقاذها ممّا تاهت فيه أو ذهلت عنه. فإلى كونها استلّت شعرة "فتح" من عجين السلطة، بعد أن صودرت شخصية الحركة وسرق تاريخها ليؤسس للسلطة شرعية وطنية في عيون أخصامها والمعارضين، أعادت "فتح" إلى صدارة العمل الوطني الفلسطيني بعد أن أجبرها الاستيلاء الأوسلوي عليها على تقاعد سياسي لم يكن يرضاه أكثرها وإن ارتضى بعضها تأجير لسانها للسلطة! ولم تكن تلك الاستعادة تفصيلاً سياسياً، وخاصة إذا ما تذكرنا أن غياب "فتح" من المشهد السياسي الفلسطيني، بين عامي 1993 و2000م، أوسع المكان لحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" كي تملآ فراغاً سياسياً، وكي تتصدرا جبهة المعارضة لـ"اتفاق أوسلو" وللسلطة التي منه انتسلت.
بل لعل أفضال الكتائب كانت على السلطة ذاتها حين بدأت رحلة العودة منكسرة من تيه "أوسلو" الذي بلغ آخر نفقه المسدود في مفاوضات "كامب ديفيد" الثانية (يوليو 2000م). وهي أفضال لها عليها بمعنيين: بمعنى أنها وضعت في حوزتها أسناناً وأظافر بعد أن خاضت مفاوضات بغير قوة ترفد موقعها التفاوضي المتهالك. ثم بمعنى أنها ضخت بعض الشرعية في صورة السلطة - رئيسها بالتحديد - حين انقطعت أواصر التعاون الأمني مع الاحتلال ورفض ياسر عرفات تكرار الخطأ وضرب قوى المقاومة نزولاً عند مطالب إسرائيل وأمريكا، وحين بات يقال - على نطاق واسع - إنه يبارك، بشكل ما، ما تقوم به الكتائب الفتحاوية.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن ياسر عرفات وحده - من دون سياسيي "أوسلو" الفتحاويين - من ظل يحافظ على بنوّة "كتائب شهداء الأقصى" لحركة "فتح" حين تبرأ منها آخرون! وقد فعل الشيء نفسه مع الجيل السياسي الفتحاوي الثاني - الذي بنى تنظيم "فتح" في الداخل قبل "أوسلو" وأثناءها- ورموزه الجديدة من غير المقاتلين (مروان البرغوثي، حسين الشيخ، حاتم عبدالقادر، سمير مشهراوي، رشيد أبو شباك... إلخ). وهو كان جسراً بين جيلين حتى لا نقول بين تنظيمين في تنظيم واحد. وإذ تحفظ له "كتائب شهداء الأقصى"، والجيل السياسي الفتحاوي الجديد، اعتباره ومقامه المعنوي، فلأكثر من سبب يقف في طليعتها اثنان:
أولهما: أن ياسر عرفات يمثل الشرعية التاريخية لحركة "فتح". ولعله آخر من تبقى من رموزها بعد استشهاد كمال ناصر، وأبي جهاد، وأبي إياد، ورحيل خالد الحسن، ووجود أبي اللطف خارج فلسطين. ودون هذه الشرعية، سيكون عسيراً على هذا الجيل ومقاتليه أن يجترح لنفسه شرعية مستقلة - وهو الجيل الشاب - في مجتمع فلسطيني لم يستنفذ بعد شرعية أبي عمار، وما زال - حتى إشعار آخر - مجتمعاً مشدوداً إلى نموذج القيادة الكاريزمية.
وثانيهما: إدراك "كتائب شهداء الأقصى" والقيادات الفتحاوية الجديدة لحرص ياسر عرفات عليهما وعلى الدور الذي تنهضان به في مضمار تعزيز شعبية "فتح" وتكريس موقعها المركزي في ساحة العمل الوطني، بل ولحمايته إياهما سياسياً من قوى تتطلع إلى الإمساك بالبيت الفتحاوي محمولة على طموحات الوراثة وعلى تشجيع لها على ذلك يأتيها من أطراف عديدة خارجية: أمريكية وإسرائيلية... وعربية! وتعرف الكتائب والفتحاويون الجدد أنه من دون حماية ياسر عرفات لن يكون وضعهما سهلاً مع قوى فتحاوية - مسلحة بسلاح الأمن الفلسطيني - يشكل لديها الاستيلاء على تنظيم "فتح" نقطة عبور إلى الاستيلاء الكامل على السلطة...، وربما إلى عزل ياسر عرفات: وهي جربت ذلك قبل عام!
تلك مصلحة متبادلة مشروعة بين زعيم "فتح" التاريخي وبين أحفاد الحركة. لكنها مصلحة مرهونة بوجود: ياسر عرفات. أما في حال غيابه - أطال الله عمره - فإن "فتح" ستمتحن جدياً في وحدتها، وقد لا تجد من يرتق خرقها السياسي والتنظيمي والنفسي، إذ سيتعذر - حينها - جمع من يناضلون أو يقاتلون مع من يفاوضون، بل قل من يرغبون في أن يعودوا إلى التفاوض: بأي ثمن!
*كاتب مغربي
لم تكن "كتائب شهداء الأقصى" لترفع صوت الاحتجاج لولا أن المؤسسة السياسية الفتحاوية تعاني من عطب في نظام اشتغالها. لا يحتاج الأمر إلى كثير بيان، فتفسير الواضحات من المُفضحات. لكن بعض "فتح"، ممن "فتح" عليه الله بنعمة "السلطة" والفَيء إلى خيارات مريحة، منذ هبت عاصفة التسوية - بعد زمن "قوات العاصفة" - فصدعت بنيان المؤسسة، لا يرى في ذلك الاحتجاج إلا تمرداً على المؤسسة وشكلاً من أشكال استدراج "فتح" إلى تقديم تغطية سياسية لقوة مسلحة لم تنشأ بقرار من الحركة، وإنما بمبادرة من أطر فتحاوية في غفلة من رقابة الحركة على أفعال أطرها، وفي مناخ من "الانفلات الأمني" ساد منذ اندلاع انتفاضة الأقصى!
من نافلة القول أن "كتائب شهداء الأقصى" لم تهطل من فوق. ولا نبتت في بسيطة فلسطين كالفطر، بل - ودون أن يكون في عبارتنا أي قدح نأباه ونربأ بقلمنا أن يأتيه في حق قادة نحترمهم - لم تأت مع القادمين من تونس حين قدموا، وإنما من جوف معركة وطنية مع الاحتلال خرج مقاتلوها بعد إذ ضاقت بهم سُبل التسوية إلى وطنهم. وإلى ذلك فإن "كتائب شهداء الأقصى" سليل المؤسسة الفتحاوية وتقاليدها الأولى في النضال: التقاليد التي أجبرتها العملية الجراحية الإسرائيلية في لبنان - صيف عام 1982م - على أن تنكفئ لما يناهز عقدين. صحيح أنها لم تنشأ بقرار مركزي رسمي من حركة "فتح"، لكن ذلك ليس مما يعتبر من مطاعنها، لأن الكثير مما كان ينشأ أو يصدر عن "فتح"، منذ ميلادها في أواسط الستينيات، لم يكن دائماً - كما يعرف العارفون - بقرار رسمي وخاصة مع وجود "مراكز قوى" متعددة في الحركة، وإقطاعات سياسية يقتطعها الواحد منها لنفسه، كما خبر ذلك إخواننا اللبنانيون في سنوات السبعينيات ومطالع الثمانينيات حين استضافة لبنان قوى الثورة ومؤسساتها وقواعدها.
آذَن ميلاد "كتائب شهداء الأقصى"، منذ ثلاث سنوات ونصف، بتولي جيل سياسي فلسطيني - فتحاوي - جديد مقاليد إدارة الصراع في مرحلة منه جديدة فتحتها انتفاضة الأقصى في خواتيم شهر سبتمبر من عام 2000. هذا الجيل - ابتداء - لا يعلم كثيراً عن الخبرة المكتبية الفتحاوية، الجديدة عليه تماماً، والآتية في ركاب من حملتهم أوفاق "أوسلو" إلى أرضهم كي يقيموا عليها سلطة ما اختلفت كثيراً عن "سلطة الفاكهاني" في إدارة أمور العمل الوطني من المكاتب! لا يعرف عنها شيئاً لأنه تخرج في مدرسة مختلفة ليس فيها تقاليد أوامرية ولا عقوبات طرد أو توقيف أو عقاب مالي، هي انتفاضة عام 1987م: التي قاتل فيها مقاتلو الكتائب بالحجارة حين كانوا أطفالاً. كل ما يعرفونه أنهم فتحاويون "وبس"، وأن لهم رموزهم السياسيين في الداخل من شباب وكهول "فتح" من خريجي سجون الاحتلال مثلما لهم رموز فتحاويون من خارج فلسطين: منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر. وبكل هذه المعايير، ليس لائقاً أن يُنظر إلى مقاتلي الكتائب كفتحاويين من الدرجة العاشرة! وممّن؟!
لعله كان خليقاً بمن يفتعل اليوم أزمة الانتماء والهوية والدور مع "كتائب شهداء الأقصى" أن يعيد الاعتبار إليها وإلى الدور الذي نهضت به، منذ عام 2001م في مضمار تصحيح صورة "فتح" حتى لا نقول في إنقاذها ممّا تاهت فيه أو ذهلت عنه. فإلى كونها استلّت شعرة "فتح" من عجين السلطة، بعد أن صودرت شخصية الحركة وسرق تاريخها ليؤسس للسلطة شرعية وطنية في عيون أخصامها والمعارضين، أعادت "فتح" إلى صدارة العمل الوطني الفلسطيني بعد أن أجبرها الاستيلاء الأوسلوي عليها على تقاعد سياسي لم يكن يرضاه أكثرها وإن ارتضى بعضها تأجير لسانها للسلطة! ولم تكن تلك الاستعادة تفصيلاً سياسياً، وخاصة إذا ما تذكرنا أن غياب "فتح" من المشهد السياسي الفلسطيني، بين عامي 1993 و2000م، أوسع المكان لحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" كي تملآ فراغاً سياسياً، وكي تتصدرا جبهة المعارضة لـ"اتفاق أوسلو" وللسلطة التي منه انتسلت.
بل لعل أفضال الكتائب كانت على السلطة ذاتها حين بدأت رحلة العودة منكسرة من تيه "أوسلو" الذي بلغ آخر نفقه المسدود في مفاوضات "كامب ديفيد" الثانية (يوليو 2000م). وهي أفضال لها عليها بمعنيين: بمعنى أنها وضعت في حوزتها أسناناً وأظافر بعد أن خاضت مفاوضات بغير قوة ترفد موقعها التفاوضي المتهالك. ثم بمعنى أنها ضخت بعض الشرعية في صورة السلطة - رئيسها بالتحديد - حين انقطعت أواصر التعاون الأمني مع الاحتلال ورفض ياسر عرفات تكرار الخطأ وضرب قوى المقاومة نزولاً عند مطالب إسرائيل وأمريكا، وحين بات يقال - على نطاق واسع - إنه يبارك، بشكل ما، ما تقوم به الكتائب الفتحاوية.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن ياسر عرفات وحده - من دون سياسيي "أوسلو" الفتحاويين - من ظل يحافظ على بنوّة "كتائب شهداء الأقصى" لحركة "فتح" حين تبرأ منها آخرون! وقد فعل الشيء نفسه مع الجيل السياسي الفتحاوي الثاني - الذي بنى تنظيم "فتح" في الداخل قبل "أوسلو" وأثناءها- ورموزه الجديدة من غير المقاتلين (مروان البرغوثي، حسين الشيخ، حاتم عبدالقادر، سمير مشهراوي، رشيد أبو شباك... إلخ). وهو كان جسراً بين جيلين حتى لا نقول بين تنظيمين في تنظيم واحد. وإذ تحفظ له "كتائب شهداء الأقصى"، والجيل السياسي الفتحاوي الجديد، اعتباره ومقامه المعنوي، فلأكثر من سبب يقف في طليعتها اثنان:
أولهما: أن ياسر عرفات يمثل الشرعية التاريخية لحركة "فتح". ولعله آخر من تبقى من رموزها بعد استشهاد كمال ناصر، وأبي جهاد، وأبي إياد، ورحيل خالد الحسن، ووجود أبي اللطف خارج فلسطين. ودون هذه الشرعية، سيكون عسيراً على هذا الجيل ومقاتليه أن يجترح لنفسه شرعية مستقلة - وهو الجيل الشاب - في مجتمع فلسطيني لم يستنفذ بعد شرعية أبي عمار، وما زال - حتى إشعار آخر - مجتمعاً مشدوداً إلى نموذج القيادة الكاريزمية.
وثانيهما: إدراك "كتائب شهداء الأقصى" والقيادات الفتحاوية الجديدة لحرص ياسر عرفات عليهما وعلى الدور الذي تنهضان به في مضمار تعزيز شعبية "فتح" وتكريس موقعها المركزي في ساحة العمل الوطني، بل ولحمايته إياهما سياسياً من قوى تتطلع إلى الإمساك بالبيت الفتحاوي محمولة على طموحات الوراثة وعلى تشجيع لها على ذلك يأتيها من أطراف عديدة خارجية: أمريكية وإسرائيلية... وعربية! وتعرف الكتائب والفتحاويون الجدد أنه من دون حماية ياسر عرفات لن يكون وضعهما سهلاً مع قوى فتحاوية - مسلحة بسلاح الأمن الفلسطيني - يشكل لديها الاستيلاء على تنظيم "فتح" نقطة عبور إلى الاستيلاء الكامل على السلطة...، وربما إلى عزل ياسر عرفات: وهي جربت ذلك قبل عام!
تلك مصلحة متبادلة مشروعة بين زعيم "فتح" التاريخي وبين أحفاد الحركة. لكنها مصلحة مرهونة بوجود: ياسر عرفات. أما في حال غيابه - أطال الله عمره - فإن "فتح" ستمتحن جدياً في وحدتها، وقد لا تجد من يرتق خرقها السياسي والتنظيمي والنفسي، إذ سيتعذر - حينها - جمع من يناضلون أو يقاتلون مع من يفاوضون، بل قل من يرغبون في أن يعودوا إلى التفاوض: بأي ثمن!
*كاتب مغربي